سورة التحريم - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التحريم)


        


{إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)}
قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ} يعني حفصة وعائشة، حثهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلي الله عليه وسلم. {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما} أي زاغت ومالت عن الحق. وهو أنهما أحبتا ما كره النبي صلي الله عليه وسلم من اجتناب جاريته واجتناب العسل، وكان عليه السلام يحب العسل والنساء. قال ابن زيد: مالت قلوبهما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده، فسرهما ما كرهه رسول الله صلي الله عليه وسلم.
وقيل: فقد مالت قلوبكما إلى التوبة. وقال: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما}
ولم يقل: فقد صغى قلبا كما، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين، من اثنين جمعوهما، لأنه لا يشكل. وقد مضى هذا المعنى في المائدة في قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما} [المائدة: 38].
وقيل: كلما ثبتت الإضافة فيه مع التثنية فلفظ الجمع أليق به، لأنه أمكن وأخف. وليس قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما} جزاء للشرط، لان هذا الصغو كان سابقا، فجواب الشرط محذوف للعلم به. أي إن تتوبا كان خيرا لكما، إذ قد صغت قلوبكما. قوله تعالى: {وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ} أي تتظاهرا وتتعاونا على النبي صلي الله عليه وسلم بالمعصية والإيذاء.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجا فخرجت معه، فلما رجع فكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت حتى فرغ، ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين، من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلي الله عليه وسلم من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة. قال فقلت له: والله إن كنت لأريد أن سألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه، فإن كنت أعلمه أخبرتك... وذكر الحديث. {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} أي وليه وناصره، فلا يضره ذلك التظاهر منهما. {وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} قال عكرمة وسعيد بن جبير: أبو بكر وعمر، لأنهما أبوا عائشة وحفصة، وقد كانا عونا له عليهما.
وقيل: صالح المؤمنين علي رضي الله عنه.
وقيل: خيار المؤمنين. وصالح: اسم جنس كقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2]، قاله الطبري.
وقيل: صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ هم الأنبياء، قاله العلاء بن زيادة وقتادة وسفيان.
وقال ابن زيد: هم الملائكة. السدي: هم أصحاب محمد صلي الله عليه وسلم.
وقيل: صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ليس لفظ الواحد وإنما هو صالحو المؤمنين: فأضاف الصالحين إلى المؤمنين، وكتب بغير واو على اللفظ لان لفظ الواحد والجمع واحد فيه. كما جاءت أشياء في المصحف متنوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما أعتزل نبي الله صلي الله عليه وسلم نساءه قال دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون: طلق رسول الله صلي الله عليه وسلم نساءه- وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب- فقال عمر: فقلت لا علمن ذلك اليوم، قال فدخلت على عائشة فقلت: يا بنة أبي بكر، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلي الله عليه وسلم! فقالت: مالي ومالك يا ابن الخطاب! عليك بعيبتك! قال فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلي الله عليه وسلم! والله لقد علمت أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لا يحبك، ولولا أنا لطلقك رسول الله صلي الله عليه وسلم. فبكت أشد البكاء، فقلت لها: أين رسول الله صلي الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خزانته في المشربة. فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلي الله عليه وسلم قاعدا على أسكفة المشربة مدل رجليه على نقير من خشب، وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم وينحدر. فناديت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم قلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صلي الله عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم رفعت صوتي فقلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صلي الله عليه وسلم، فإني أظن أن رسول الله صلي الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله صلي الله عليه وسلم بضرب عنقها لأضربن عنقها، ورفعت صوتي فأومأ إلي أن أرقه، فدخلت على رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير، فجلست فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلي الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، ومثلها قرظا في ناحية الغرفة، وإذا أفيق معلق- قال- فابتدرت عيناي. قال: «ما يبكيك يا بن الخطاب»؟ قلت يا نبي الله، وما لي لا أبكى وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله صلي الله عليه وسلم وصفوته، وهذه خزانتك! فقال: «يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا» قلت: بلى. قال: ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله، ما يشق عليك من شأن النساء، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. وقلما تكلمت- وأحمد الله- بكلام إلا رجوت أن يكون الله عز وجل يصدق قولي الذي أقول ونزلت هذه الآية، آية التخيير: {عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} [التحريم: 5]. {وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ}. وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء رسول الله صلي الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله، أطلقتهن؟ قال: «لا». قلت: يا رسول الله، إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى يقولون: طلق رسول الله صلي الله عليه وسلم نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: «نعم إن شئت». فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه، وحتى كشر فضحك، وكان من أحسن الناس ثغرا. ثم نزل نبي الله صلي الله عليه وسلم ونزلت، فنزلت أتشبث بالجذع، ونزل رسول الله صلي الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده. فقلت: يا رسول الله، إنما كنت في الغرفة تسعا وعشرين. قال: «إن الشهر يكون تسعا وعشرين» فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله صلي الله عليه وسلم نساءه. ونزلت هذه الآية: {وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]. فكنت أنا استنبطت ذلك الامر، وأنزل الله آية التخيير. قوله تعالى: {وَجِبْرِيلُ} فيه لغات تقدمت في سورة البقرة. ويجوز أن يكون معطوفا على مَوْلاهُ والمعنى: الله وليه وجبريل وليه، فلا يوقف على مَوْلاهُ ويوقف على جِبْرِيلُ ويكون وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ مبتدأ وَالْمَلائِكَةُ معطوفا عليه. وظَهِيرٌ خبرا، وهو بمعنى الجمع. وصالح المؤمنين أبو بكر، قاله المسيب بن شريك.
وقال سعيد بن جبير: عمر.
وقال عكرمة: أبو بكر وعمر. وروي شقيق عن عبد الله عن النبي صلي الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} قال: إن صالح المؤمنين أبو بكر وعمر.
وقيل: هو علي. عن أسماء بنت عميس قالت: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: {وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ علي بن أبي طالب}. وقيل غير هذا مما تقدم القول فيه. ويجوز أن يكون وَجِبْرِيلُ مبتدأ وما بعده معطوفا عليه. والخبر ظَهِيرٌ وهو بمعنى الجمع أيضا. فيوقف على هذا على مَوْلاهُ. ويجوز أن يكون جِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ معطوفا على مَوْلاهُ فيوقف على الْمُؤْمِنِينَ ويكون وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ابتداء وخبرا. ومعنى ظَهِيرٌ أعوان. وهو بمعنى ظهراء، كقوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولئِكَ، رَفِيقاً} [النساء: 69].
وقال أبو علي: قد جاء فعيل للكثرة كقوله تعالى: {وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج: 11- 10].
وقيل: كان التظاهر منهما في التحكم على النبي صلي اله عليه وسلم في النفقة، ولهذا آلى منهن شهرا واعتزلهن.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلي الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لاحد منهم، قال: فأذن لابي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلي الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا- قال- فقال لأقولن شيئا أضحك النبي صلي الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله صلي الله عليه وسلم وقال: «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة». فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلي الله عليه وسلم ما ليس عنده! فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلي الله عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده. ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين. ثم نزلت عليه هذه الآية: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ حتى بلغ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 29- 28] الحديث. وقد ذكراه في سورة الأحزاب.


{عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)}
قوله تعالى: {عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} قد تقدم في الصحيح أن هذه الآية نزلت على لسان عمر رضي الله عنه. ثم قيل: كل عَسى في القرآن واجب إلا هذا.
وقيل: هو واجب ولكن الله عز وجل علقه بشرط وهو التطليق ولم يطلقهن. {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} لأنكن لو كنتن خيرا منهن ما طلقكن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال معناه السدي.
وقيل: هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلي الله عليه وسلم، لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه في الدنيا نساء خيرا منهن. وقرئ: {أن يبدله} بالتشديد والتخفيف. والتبديل والابدال بمعنى، كالتنزيل والانزال. والله كان عالما بأنه كان لا يطلقهن، ولكن أخبر عن قدرته، على أنه إن طلقهن أبدله خيرا منهن تخويفا لهن. وهو كقوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد: 38]. وهو إخبار عن القدرة وتخويف لهم، لا أن في الوجود من هو خير من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم. قوله تعالى: {مُسْلِماتٍ} يعني مخلصات، قاله سعيد بن جبير.
وقيل: معناه مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله. {مُؤْمِناتٍ} مصدقات بما أمرن به ونهين عنه. {قانِتاتٍ} مطيعات. والقنوت: الطاعة. وقد تقدم. {تائِباتٍ} أي من ذنوبهن، قاله السدي.
وقيل: راجعات إلى أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم تاركات لمحاب أنفسهن. {عابِداتٍ} أي كثيرات العبادة لله تعالى.
وقال ابن عباس: كل عبادة في القرآن فهو التوحيد. {سائِحاتٍ} صائبات، قاله ابن عباس والحسن وابن جبير.
وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن ويمان: مهاجرات. قال زيد: وليس في أمة محمد صلي الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة. والسياحة الجولان في الأرض.
وقال الفراء والقتبي وغيرهما: سمي الصائم سائحا لان السائح لا زاد معه، وإنما يأكل من حيث يجد الطعام.
وقيل: ذاهبات في طاعة الله عز وجل، من ساح الماء إذا ذهب. وقد مضى في سورة براءة والحمد لله. {ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً} أي منهن ثيب ومنهن بكر.
وقيل: إنما سميت الثيب ثيبا لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها، أو إلى غيره إن فارقها.
وقيل: لأنها ثابت إلى بيت أبويها. وهذا أصح، لأنه ليس كل ثيب تعود إلى زوج. وأما البكر فهي العذراء، سميت بكرا لأنها على أول حالتها التي خلقت بها.
وقال الكلبي: أراد بالثيب مثل آسية امرأة فرعون، وبالبكر مثل مريم بنة عمران. قلت: وهذا إنما يمشي على قول من قال: إن التبديل وعد من الله لنبيه لو طلقهن في الدنيا زوجه في الآخرة خيرا منهن. والله أعلم.


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6)}
فيه مسألة واحدة- وهي الامر بوقاية الإنسان نفسه واهلة النار. قال الضحاك: معناه قوا أنفسكم، وأهلوكم فليقوا أنفسهم نارا. وروي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوا أنفسكم وأمروا أهليكم بالذكر والدعاء حتى يقيهم الله بكم.
وقال علي رضي الله عنه وقتادة ومجاهد: قوا أنفسكم بأفعالكم وقوا أهليكم بوصيتكم. ابن العربي: وهو الصحيح، والفقه الذي يعطيه العطف الذي يقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في معنى الفعل، كقوله:
علفتها تبنا وماء باردا ***
وكقوله:
ورأيت زوجك في الوغى *** متقلدا سيفا ورمحا
فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة، ويصلح أهله إصلاح الراعي للرعية. ففي صحيح الحديث أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم». وعن هذا عبر الحسن في هذه الآية بقوله: يأمرهم وينهاهم.
وقال بعض العلماء لما قال: قُوا أَنْفُسَكُمْ دخل فيه الأولاد، لان الولد بعض منه. كما دخل في قوله تعالى: {وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] فلم يفردوا بالذكر إفراد سائر القرابات. فيعلمه الحلال والحرام، ويجنبه المعاصي والآثام، إلى غير ذلك من الأحكام.
وقال عليه السلام: «حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويعلمه الكتابة ويزوجه إذا بلغ».
وقال عليه السلام: «ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن». وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلي الله عليه وسلم: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع». خرجه جماعة من أهل الحديث. وهذا لفظ أبي داود. وخرج أيضا عن سمرة بن جندب قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم: «مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها». وكذلك يخبر أهله بوقت الصلاة ووجوب الصيام ووجوب الفطر إذا وجب، مستندا في ذلك إلى رؤية الهلال. وقد روى مسلم أن النبي صلي الله عليه وسلم كان إذا أوتر يقول: «قومي فأوتري يا عائشة». وروي أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «رحم الله امرأ قام من الليل فصلى فأيقظ أهله فإن لم تقم رش وجهها بالماء. رحم الله امرأة قامت من الليل تصلى وأيقظت زوجها فإذا لم يقم رشت على وجهه من الماء». ومنه قوله صلي الله عليه وسلم: «أيقظوا صواحب الحجر». ويدخل هذا في عموم قوله تعالى: {وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى} [المائدة: 2]. وذكر القشيري أن عمر رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية: يا رسول الله، نقي أنفسنا، فكيف لنبإ علينا؟. فقال: «تنهونهم عما نهاكم الله وتأمرونهم بما أمر الله».
وقال مقاتل: ذلك حق عليه في نفسه وولده واهلة وعبيده وإمائه. قال الكيا: فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير، وما لا يستغنى عنه من الأدب. وهو قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها} [طه: 132]. ونحو قوله تعالى للنبي صلي الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214].
وفي الحديث: «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع». {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ} تقدم في سورة البقرة القول فيه. {عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ} يعني الملائكة الزبانية غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا، خلقوا من الغضب، وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني آدم أكل الطعام والشراب. شِدادٌ أي شداد الأبدان.
وقيل: غلاظ الأقوال شداد الافعال. وقيل غلاظ في أخذهم أهل النار شداد عليهم. يقال: فلان شديد على فلان، أي قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب.
وقيل: أراد بالغلاظ ضخامة أجسامهم، وبالشدة القوة. قال ابن عباس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوه الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم.
وذكر ابن وهب قال: وحدثنا عبد الرحمن بن زيد قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم في خزنة جهنم: «ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب». قوله تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ} أي لا يخالفونه في أمره من زيادة أو نقصان. {وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} أي في وقته، فلا يؤخرونه ولا يقدمونه. وقيل أي لذتهم في امتثال أمر الله، كما أن سرور أهل الجنة في الكون في الجنة، ذكره بعض المعتزلة. وعندهم أنه يستحيل التكليف غدا. ولا يخفى معتقد أهل الحق في أن الله يكلف العبد اليوم وغدا، ولا ينكر التكليف في حق الملائكة. ولله أن يفعل ما يشاء.

1 | 2 | 3 | 4